فن

أسئلة الحب والعلاقات في السينما

كيف كان الحب مرآة تكشف هشاشتنا الإنسانية؟ وهل للحب خرائط نتتبعها ومراحل يمكن التنبؤ بها؟ أم أن الحب بطبيعته عصي على التفسير، متجدد كل مرة في صورة مختلفة؟

future صورة تجمع غلافي فيلم «الهوى سلطان» و«6 أيام»

منذ أن وجدت السينما، ظلت الحكايات العاطفية هي قلبها النابض؛ فالحب كان دائمًا مرآة تكشف هشاشتنا الإنسانية ورغبتنا الدائمة في الفهم والطمأنينة. لكن السؤال الأهم ليس في عرض قصص الحب ذاتها، بل في الأسئلة التي تثيرها هذه القصص: ماذا يبقى من حب الطفولة بعد أن يمر العمر؟ هل يمكن أن يتحول الصديق الأقرب إلى الحبيب الأصدق؟ هل للحب خرائط يمكن تتبعها ومراحل يمكن التنبؤ بها؟ أم أن الحب بطبيعته عصيّ على التفسير، متجدد كل مرة في صورة مختلفة؟

هذه الأسئلة ليست تنظيرًا فلسفيًا مجردًا، بل هي جوهر ما تحاول بعض الأفلام المصرية المعاصرة طرحه، كلٌّ على طريقته. في ٦ أيام نواجه أثر السنين على حب البدايات، وفي الهوى سلطان نخوض رحلة صداقة تتبدل إلى حب مكتشف، بينما يقدم هيبتا دراسة رومانسية لمراحل العلاقة، ويطرح فرق خبرة تحدي الفروق الاجتماعية والعمرية في اختبار صعب لمفهوم الحب ذاته.

بهذا تصبح السينما هنا ليست مجرد وسيلة لعرض حكايات رومانسية، بل مختبرًا حيًا لأسئلة العلاقات، وحوارًا طويلًا مع الجمهور حول التجربة الإنسانية الأكثر عمقًا والتباسًا: الحب.

الهوى سلطان.. بين الصداقة والحب

يقدم فيلم الهوى سلطان للمخرجة هبة يسري واحدًا من أكثر الأسئلة شيوعًا وإرباكًا في العلاقات الإنسانية: هل يمكن أن تتحول الصداقة الممتدة عبر السنين إلى حب حقيقي؟

من خلال علاقة سارة (منى شلبي) وعلي (أحمد داود)، اللذين ربطتهما صداقة منذ الطفولة، يرسم الفيلم ملامح علاقة تبدو مستقرة أكثر مما ينبغي، حتى يأتي دخول آخرين في حياتهما ليكشف ما ظلّ مطمورًا تحت ركام الألفة: أنهما واقعان في حب بعضهما منذ زمن بعيد، لكنهما لم يملكا الوعي أو الجرأة للاعتراف بذلك.

قدمت هبة قصة مليئة بالمشاعر عبارة عن رحلة طويلة مليئة بالتحولات مع الأبطال حيث نبدأ الفيلم وهما أصدقاء مقربين جدًا بينهما تفاهم قوي، وتربطهما علاقة قوية جدًا يمكننا وصفها بالأخوة فحتى العائلة في الطرفين تشتبك ضمن هذه العلاقة.

يبدأ هذا التفاهم، والترابط القوي يتهدد عندما يدخل البطل علي في علاقة إعجاب بفتاة أخرى تبدأ من هنا العلاقة في الانكماش، ففي البداية كنا نرى سارة وعلي دائمًا سويًّا بعيدًا عن أوقات العمل يذهبان إلى السينما معًا، وإلى المناسبات، وإلى المنزل، وحتى عندما يكونان في أوقات العمل لا ينقطع بينهما التواصل بسبب الرسائل الدائمة بينهما.

كل ذلك يتغير بعد أن يدخل علي في علاقة، وتبدأ علاقة الصداقة القوية بين علي وسارة تضعف. يضعنا الفيلم هنا أمام تساؤل عن علاقات الصداقة في العموم التي تخفت عند وجود علاقة حب من أحد الأطراف. تلمس هذه القصة واقعنا المعاش مما نراه في علاقتنا مع أصدقائنا التي تكبر، والتي تضمحل، ويجعلنا نتساءل حول الصداقة والأصدقاء.

يسير العمل في رحلة من التخبطات التي يمر بها كل من علي وسارة في علاقات عاطفية فاشلة، إلى أن نصل إلى لحظة الذروة التي يتساءل فيها الأبطال عن جدوى وجودهم في علاقات غير مريحة بينما يطرحون خلف ظهرهم المشاعر التي تربطهم ببعض. يفيق أخيرًا علي وسارة، ويعترفان بمشاعرهما اتجاه بعضهما.

تطرح علينا مشاهدة هذا العمل سؤالا: هل من الممكن أن تتحول الصداقة إلى حب؟ هل هناك فارق بين مشاعر الحب والصداقة تجاه الآخر إذا كان مختلفًا في نوعه؟ هل العلاقة بين علي وسارة كانت منذ البداية صداقة ثم تحولت أم أنها حب منذ البداية؟ كيف نُفرق بين مشاعر الصداقة والإعجاب؟

الفيلم يطرح بذكاء فكرة أن الحب والصداقة ليسا خطين متوازيين بالضرورة، بل قد يكون الحب كامناً داخل الصداقة، ينتظر الشرارة التي تكشفه. وفي الوقت ذاته يؤكد أن هذا الانتقال ليس سهلاً ولا مضمونًا؛ فالألفة قد تعمي العين عن المشاعر، والصداقة قد تتحول إلى عبء يعيق الاعتراف بالحب. هكذا يغدو الفيلم بمثابة اختبار لمسارات العلاقات: هل نختار البقاء في دائرة الراحة والأمان التي توفرها الصداقة، أم نغامر بالقفز نحو المجهول حيث يبدأ الحب؟

عندما نطرح سؤالًا مثل: هل يمكن أن تتحول الصداقة إلى حب؟، فإن الأدبيات العلمية والكتب المتخصصة لا تعامل الموضوع كخيال رومانسي بقدر ما تعاملُه كمسار يحدث بشكل متكرر وله آليات نفسية واجتماعية واضحة.

واذا قرأنا الأبحاث التي تناولت الأمر سنجد دراسات حديثة أظهرت أن بدء العلاقة من صداقة (friends-first initiation) ليس استثناءً بل هو أمر شائع ومفضل لدى كثيرين؛ نحو ثلثي المشاركين في عينات كبيرة أبلغوا أن علاقاتهم الرومانسية بدأت كصداقات، وأن هذه الطريقة من المبادرة تُفضَّل خصوصًا بين طلاب الجامعات والشباب.

قد يفسر ذلك أن وجود الشخص بجانبنا في البداية كصديق يسمح لنا بالتعرف عليه عن قرب، ويسمح لنا أيضا بلا شك باختباره قبل الاختيار.

وفي هذا الموضوع يقول روبرت ستيرنبرغ (Robert Sternberg) – صاحب نظرية مثلث الحب- أن الحب مركب من ثلاث مكوّنات: الحميمية (intimacy)، الشغف (passion)، والالتزام (commitment). الصداقة عادة ما تكون غنية بالحميمية (قرب، ثقة، تبادل أسرار) دون شغف جنسي أو قرار التزام؛ عندما تنضج ظروف معينة — مثالًا: تغيير في إدراك الشخص، حسٌّ بالمشاركة الاستثنائية، أو حدث يثير العاطفة — قد يتولد الشغف وتنقلب «الاعجاب» إلى حب رومانسي، فتتحول علاقة الإعجاب أو الود إلى شكل رومانسي أوسع. تفسير ستيرنبرغ يساعدنا على فهم المراحل التي تمر بها العلاقة من مجرد صداقة إلى حب رومانسي.

تشير الدراسات إلى أن العلاقات التي تبدأ من صداقة قد تكون أكثر استقرارًا ورضا على المدى المتوسط، لأن قاعدة الحميمية والثقة موجودة سلفًا؛ لكنها أيضًا قد تعاني من مشكلات إذا نمت التوقعات بين الطرفين بلا توازن أو إذا شعر أحدهما بأن الدفاع عن «الراحة» أعاق التعبير عن مشاعر أعمق. لذا التحول قد يكون ممثلاً للاستقرار والرشد أو، في حالات أخرى، فخًا يعيد إنتاج روتين عاطفي بلا شغف حقيقي.

في الأخير قدمت لنا هبة يسري رحلة ممتعة نكتشف من خلالها معاني كثيرة عن الصداقة والحب، رحلة خاضها علي وسارة اكتشفوا من خلالها في النهاية الحب الكامن بداخلهم.

٦ أيام.. عملت إيه فينا السنين؟

في فيلمه الأول أيضا قدم لنا المخرج الموهبة كريم شعبان فيلما رومانسيا جميلا يحكي قصة طفلين أحبا بعضهما في الطفولة، وسريعا ما يجهض هذا الحب عندما ترحل علياء عن المكان إلا أن الصدف تجمع بينهما مرة أخرى، لتتوالى من بعدها لقاءات أخرى كل عام أو أكثر في يوم محدد كما اتفقا، ونكتشف خلال هذه الرحلة التغيرات التي تعصف بالطرفين في كل لقاء جديد.

نخوض هذه المرة من خلال الفيلم الذي كتبه السيناريست المبدع وائل حمدي رحلة مختلفة تبدأ في الطفولة ولا تنتهي لنصبح أمام سؤال جديد عما تفعله السنين فينا، وفي الحب، والمشاعر التي نحملها بداخلنا للآخرين؟

من اللحظة الأولى يضعنا الفيلم أمام تساؤل وعملت إيه فينا السنين؟، وهو عنوان فرعي للفيلم الذي اختار له الصناع اسم «6 أيام». تبدأ القصة من الطفولة، ومن قاعة الأحلام «السينما» يجلس يوسف وعلياء يشاهدان فيلما بعد أن هربا من موعد الدرس المفترض أن يكونا فيه ترتسم على وجه الأطفال الأبطال براءة تناسب العلاقة التي تجمعهم في هذا العمر، ولكن فجأة ترحل علياء عن الحي دون سابق إنذار، ودون أن تترك أي معلومة يوسف يمكن أن يصل لها من خلالها.

هكذا فجأة بترت العلاقة سريعا، ولكن بعد مرور سبع سنوات تقريبا من الرحيل تجمع الصدفة من جديد يوسف بحب الطفولة علياء بينما يجلس في مطعم، منتظرا المؤتمر الخاص بكلية طب الأسنان التي التحق بها يسمع صوت شخص يسأله عن الذي يريد أن يطلبه، وعندما يرفع عينه يفاجأ بأن الفتاة ترتدي زي المكان موضوع عليه اسمها، ويتعرف عليها.

بعد مرور كل هذه السنوات يبدو كل شيء تغير في الوقت نفسه يبدو أيضا أن لا شيء قد تغير! فقد تغير يوسف الطفل، وأصبح طبيبا، وتغيرت علياء الفتاة الصغيرة الجريئة في طفولتها يبدو أن الحياة كسرت شوكتها، وأصبحت أكثر خجلا. ولكن في الوقت نفسه لم تتغير مشاعر الحب فبعد أن تبادلا أطراف الحديث، وتبددت مساحة الجمود بينهما سريعا ما بدأ كل واحد يسأل عن الآخر، ويفتش عن ماضيه الذي لم يكن معه فيه.

نرى الغيرة في عين علياء عندما تشاهد يوسف يتحدث إلى زميلته الطبيبة التي رأته صدفة، ونرى الحزن الذي يغيم على الأجواء عندما يكتشف يوسف أن علياء الآن مخطوبة.

يتخذ كريم شعبان من الزمن بطلاً خفيًّا يختبر هشاشة العاطفة وصلابتها في آن واحد، فيصوغ حكاية يوسف وعلياء بوصفها رحلة في ذاكرة الحب وأوجاعه. يبدأ كل شيء ببراءة الطفولة ودهشتها، غير أنّ السنوات تتدخّل كقوة صامتة تفكك المسارات وتعيد تشكيل المصائر؛ تفصل بينهما قسراً، ثم تعيدهما إلى مواجهة أنفسهما بعد أن غير الزمن ملامحهما الداخلية قبل الخارجية. يوسف، الذي كان طبيبًا واعدًا، ينحدر إلى هاوية التشرد، بينما تنجح علياء في شق طريقها بثبات لتصبح مضيفة طيران. يضع الفيلم أمامنا سؤالاً وجوديًّا بالغ القسوة: هل يذبل الحب تحت وطأة الأعوام، أم يظل متوارياً في أعمق زوايا القلب، ينتظر من يفتش عنه؟ تبدو الإجابة، كما يوحي النص السينمائي، أن الزمن لا يقتل المشاعر بقدر ما يعيد صياغتها؛ يغير أشكالها وحدودها، لكن جوهرها يظل قابلاً للاستدعاء متى التقت الأرواح من جديد، ولو بعد غيابٍ طويل.

الفيلم لا يقدم السنين كعدو صامت للحب بقدر ما يكشف قدرتها على إعادة تشكيله، تشذيب الحواف، وإخفاء ملامحه أحيانًا حتى نظن أننا نسيناه. لكنه يسألنا أيضًا: هل يختفي الحب حقًّا أم يظل هناك، في أدراج القلب، ينتظر من يجرؤ على فتحها؟

السنين لا تقتل الحب الصادق، لكنها تغير شكله ومكانه في داخلنا. قد يتحول الحنين إلى طبقة رقيقة تغلف الذكريات، أو يختفي خلف التزامات الواقع وأثقاله، غير أنه يظل كامناً، ينتظر الشرارة المناسبة ليعود نابضًا. الحب الذي يبنى على لحظة صفاء أو صدق خالص يظل محتفظًا بقدرته على الإشراق، حتى لو أخفته التجارب والخيبات.

إن ما يفعله الزمن في الحب ليس محوًا بقدر ما هو امتحان لقدرة المشاعر على الصمود. بعض العلاقات تموت لأنها لم ترو بما يكفي، أو لأنها كانت وهمًا أكثر من كونها حقيقة، بينما أخرى تعبر الأعوام كأنها تعرف سر البقاء، وتخرج من تحت الركام متى دُعيت بأمانة. وربما يكمن جمال الحكاية في أننا لا نستطيع أن نتنبأ أي المشاعر ستنجو وأيها ستذبل؛ كل ما علينا أن نتأمل أثر الزمن في قلوبنا، وأن نتعلم كيف نمد أيدينا، في اللحظة المناسبة، لنوقظ الحب الذي اختبأ طويلًا في أدراج الروح.

في النهاية، تتجاوز هذه الأعمال حدود الحكاية الرومانسية التقليدية، لتغدو أشبه بعدسة تكبر الأسئلة الجوهرية التي نحملها عن أنفسنا وعن الآخرين. فهي لا تكتفي بتقديم قصص حب بمعناها المألوف، بل تحول التجربة العاطفية إلى مساحة للتفكير في معنى القرب والغياب، في موازين الرغبة والخوف، وفي صراع الإنسان بين التمسك بما يعرفه والمجازفة بما قد يبدل حياته. ومن خلال تداخل السيناريو بالصورة والموسيقى، تصبح السينما وسيطًا يجمع بين حميمية المشاعر وصرامة التساؤل، فتضيء جوانب لم نكن نلتفت إليها في علاقتنا بالحب، بالصداقة، وبالزمن نفسه.

الخاتمة: إن أسئلة الحب والعلاقات في السينما ليست رفاهية نقدية، بل مرآة لقلقنا الإنساني وحنيننا المستمر إلى فهم ما يجعل قلوبنا تخفق، وما يبقيها معلّقة حتى بعد أن يغير الزمن كل شيء. فهذه الأفلام، من «الهوى سلطان» إلى «6 أيام»، تكشف أن المشاعر الحقيقية لا تُختزل في تعريفات جاهزة أو نهايات سعيدة، بل تتجدد كل مرة حين نعيد اكتشافها في ضوء التجربة. لعل القيمة الأعمق لهذه الأعمال أنّها تذكرنا بأن الحب، مهما بدا بسيطًا أو معقدًا, ليس مجرد حدث عابر، بل فعل وجودي يختبر صدقنا مع ذواتنا ومع من نختار أن نمنحهم قلوبنا. هكذا تظل السينما، بقدرتها على الحفر في دواخلنا، مساحةً نسائل فيها ذاك الشعور الذي يظل، رغم كل شيء، لغزًا يستحق أن نلاحقه حتى آخر المشهد.

# سينما مصرية # فن # سينما

«هابي بيرث داي» .. جدل الأوسكار المصري بين فيلم لم يعرض وجمهور غاضب
من فنلندا إلى كوريا: العدالة الجندرية شرطا للتنمية
عقارب ويجز — أو كيف تخسر الشعب في الطريق من الورديان إلى العلمين الجديدة؟

فن